اهم الاخبار

الليبيون والأمم المتحدة: الغرام القاتل

بقلم : د. محمد عمر غرس الله 06 يناير 2020

 

يلاحظ المتابع لما يجري في المنطقة، أن بين الأمم المتحدة والليبيين حالة غريبة عجيبة، فقصة ليبيا مع الأمم المتحدة تبدو سوداء الصفحة ورغم ذلك الكثير من هؤلاء الليبيين يبدو وكأنهم يعشقونها دون أدنى إستيعاب لحقيقة دورها المزدوج بين (الظاهر والخفي)، إن هذا العشق الليبي العذري للأمم المتحدة يبدو صادماً، فعند محاولاتك توضيح أن الأمم المتحدة (مجلس الأمن) – في حقيقتها- تعد تكريس لسطوة الدول الكبرى، تجد هؤلاء الليبيون يذكرونك – بغضب – بقرار الأمم المتحدة المتعلق بإستقلال ليبيا 21 نوفمبر 1949م، والذي تحقق في 24 ديسمبر 1952م، وفي ذلك يُصر البعض على أن ليبيا نفسها صنيعة الأمم المتحدة هذه، بل ويحدثونك على أنها إكتشافها الحصري، وهي التي صنعتها من العدم، مالقصة؟ دعونا نرى؟

أن التصورات العامة في ليبيا – حول دور الأمم المتحدة التاريخي في ليبيا – تعد محيرة للغاية وبسذاجة وجهل مطبق بتاريخنا ونضالنا ووجودنا المترابط – وسط أمتنا العربية – فليبيا الحالية – تاريخياً – مركز المقاومة التاريخية لأعتى موجة قادها الأسبان ومن بعدهم فرسان القديس يوحنا ومن بعدهم الطليان ومن تلاهم من الغزاة، مركز مثلت فيه طرابلس والطرابلسيين (كما كان يسمى سكان هذه الجغرافيا) واسطة عقد حواضر الأمة العربية من المغرب حتى المشرق، لما لها من ترابط بالإمتداد العربي المار بالإسكندرية والقاهرة شرقاً والمتواصل مع تونس والجزائر والمغرب وإعماق الصحراء الكبرى حتى شنقيط وتنبكتو وكيدال وكل السوق وأنجامينا ودار فور والخرطوم، والمُكمل لذلك الإمتداد القادم من حضرموت وصنعاء وبغداد ودمشق.

في الحقيقة فإن ليبيا التاريخية الحاضرة العربية، (طرابلس الغرب كمركز سلطة) لم تكن صنيعة الأمم المتحدة بل هي صنيعة أبنائها ونضالهم، مما قبل مواجهة  فيلادليفيا عام 1805م، أما حدودها الدولية – اليوم – فهي عبارة عن تجلي من مخلفات الإستعمار في المنطقة العربية، فطرابلس الغرب والطرابلسيين أمتداد عربي من المشرق إلى المغرب حيث لم يكن ثم تمييز قبل الإستعمار بين العربي وأخيه العربي سكناً ونضالاً وحياة وتنقل، وقضايانا العربية منذ القدم كانت ولا تزال قضية واحدة تُهمنا وتشغلنا ونعمل من أجلها من “بغداد” حتى “روصو” على تخوم الغابة الإفريقية، ومقاومة الإستعمار في أمتنا العربية مقاومة وحركة تحرير واحدة – بغض النظر عن إسم ونوع الإستعمار وخطوط الحدود التي رسمها والتسميات التي فرضها – قام بها وساهم فيها كل العرب – معاً – بنفس المستوى كلاً بما يستطيع وأينما يستطيع.

أن الأمم المتحدة – التي ظهرت كنتيجة للحرب العالمية الثانية – إنصاعت لحركة التحرر وتصفية الإستعمار، فقامت الدول المنتصرة بحيلة تقسيم وحدة حركة التحرر العربي إلى حركات إستقلالية مُنحت الإعتراف كدول (مُجزاءة) بناء على حدود صنعتها الدول التي إستعمرت المنطقة (سايكس بيكو في المشرق العربي، وقسمت فرنسا المغرب العربي وصحرائه الكبرى على دويلات) وبقت دائماً هذه حدود تعبير عن مخلفات هذا الإستعمار ونفوذه حتى وإن الحالة الإستقلالية تاريخياً في عمقها إستمدت قوتها ومشروعيتها من نضال شعوبنا في أمتنا، وليس من قرار الأمم المتحدة الذي كان في حقيقته إستجابة للنضال ضد الإستعمار، لكنه وقع في (القُطرية) كمتاح وممكن مرحلياً.

كان ولايزال ظهور الدولة القطرية – وإن كانت قد قبلته قوى التحرر العربي الموحدة تاريخياً أنذاك – مرحلة أولية للتخلص من الإستعمار، ونحن لازلنا أمام تحدي تأكيد هذا الإستقلال – فعلياً – بتحقيق وحدة الأمة العربية كمعبر طبيعي وواقعي وحقيقي وضروري عن إرادة حركة التحرر العربي، ولابد علينا أن نحقق وحدتنا ونعود إليها كوضع طبيعي يمكننا من البقاء وتحقيق إرادة الفعل والإستمرار المادي والمعنوي حضارياً.

إن الأمم المتحدة – التي يعشقها الليبيون ويعشق مبعوثيها ومكاتبها وفرق عملها – يبدو إنها تحب الليبيين بطريقة غرام الأفاعي، فقد تم تحت جناحها حصار لليبيا (1991 – 1999م) لمدة عشر سنوات ظلماً وعدواناً بعد تلفيق قضية لوكربي، وقُتل خلالها الألاف من الليبيين المرضى وفي حوادث الطرق وهم يسافرون براً بين مصر وتونس، وتم فيها توقف عجلة التنمية وتأكلت المدخرات المحلية للدولة والأُسرة والأفراد نتيجة لمفعول الحصار الإقتصادي، وتم تحت جناحها منع الطلبة الليبيون من دراسة علوم مهمة لبنية المجتمع وتطوره، وتم منع إستخدام الطيران في ليبيا وبينها وبين العالم الأخر وبما فيه منع الحصول على قطع الغيار والحصول على التقنية المتطورة، وتم تجميد أرصدة ليبيا المالية بما في ذلك من نهب وسطو مقنع وواضح، وتم تحت الأمم المتحدة – هذه – إجبار ليبيا (الدولة الصغيرة) على دفع أموال طائلة للتخلص من ذلك الحصار الجائر والظالم إكراماً لعيون أميركا وبريطانيا.

كما أن الأمم المتحدة – فيما بعد – في غضون عشرين سنة أصدرت قرار 1973 يوم 17 مارس2011م بوضع ليبيا تحت الفصل السابع وفرض حظر جوي على ليبيا دون أية تحقيق محايد أو تأكد مما روج له الإعلام المعادي لليبيا وفي غضون شهر واحد فقط من تفجر الأحداث، وقامت الأمم المتحدة – هذه – عبر مجلس الأمن بتغطية عدوان حلف الناتو علينا بــــــ 30 ألف غارة بأضخم آلة حربية يعرفها تاريخ العالم، وتم تجميد الأرصدة الليبية والتصرف فيها عبر السيطرة المالية للدول الغربية ومركز المال الدولي ذراع الهيمنة والنهب.

هذا وبعدما تم إدخال ليبيا لنفق الفوضى الخلاقة، لليبيين قصة عجيبة وغريبة في الغرام السياسي بمبعوثي الأُمم المتحدة في ليبيا ، فالليبيون صاروا مغرومون بالبعثة ومبعوثيها وفرق عملها وإجتماعاتهم ولقاءاتهم وتصريحاتهم، بل أن أكاديميين ونخب وشخصيات ليبية معتبرة صارت تعبر عن هيامها وعشقها العذري بالأمم المتحدة ومبعوثيها وما يشير إليها وإليهم، يصدقونها ويصدقونهم ويستشيرونهم ويجلسون أمامهم ويجرون ورائهم ويلهثون نحو إجتماعاتهم عبر العواصم ويسوغون تدخلاتهم حتى في عمل البلديات وتفاصيل القبائل وكإن البعثة الأممية جزء من الإدارة المحلية للبلاد، فأنت ترى أنف المبعوثين في كل تفصيل، وتلاحظ أن بعض الليبيون يخاطبون مبعوثي الأمم المتحدة بكلمات التبجيل المبالغ فيه غزلاً وحباً وعشقاً سياسياً لا متناه هيام عذري لابد أن الأمم المتحدة نفسها مستغربة في هذا الشعب الذي سلمت نخبه وقواه وكوادره أمرها لمبعوثيها مراسليها وفرقها ومشاريعها يفصلون ويشيرون ويتدخلون في كبيرة وصغيرة.

أن قصة الليبيون مع الأمم المتحدة اليوم محيرة للغاية ومُلفتة، فلم يقاطع الليبيون بعثتها، ولم يتجنبوها ويعزلونها عنهم، ولم يعبروا عن رفضهم لتدخلها السافر بالإحتجاج المناسب، ولم ينطلقوا يتلمسون طريقهم الوطني نضالاً يعرف أهل البلد كيف يقومون به وفق مصلحتهم ورؤيتهم وإرادتهم كما هو ديدن الشعوب، فالشعب العربي الليبي يعرف تاريخه شواهد مهمة في ذلك، لكن البعض من الليبيين سلموا أنفسهم لهذه الأمم المتحدة ومبعوثيها الذين تستبدلهم كل مرة، فكل المبعوثين سبق لهم العمل في دول رأى ويرى الليبيون ماذا حققت فيها الأمم المتحدة – هذه – وماذا فعل مبعوثيها في العراق وأفغانستان والصومال واليمن وإلى ماذا ألت أوضاعها.

إنها مفارقة غريبة عجيبة، فالشعوب بنخبها وكوادرها هي من تصنع طريقها، وهي من تحدد سلم أولوياته، وهي من تنحت طريقها الوطني، ولا تسير خلف ما يرسمه موظف أممي تحركه سيطرة وسطوة الدول المسيطرة على القرار في المجلس الأمن ومصالحها ورؤيتها.

أن الأمم المتحدة بما تفعل في ليبيا منذ ثلاثين عاماً هي الغطاء الذي يستخدمه (الغرب الناهب) العدو الأول ليبيا والليبيون، تحت جناحها تم كل ما حل وحاك بليبيا من نهب أموالها غصباً وظلماً وموت نساء وأطفال وشيوخ بسبب الحصار الظالم في تسعينيات القرن الماضي تحت ذريعة قضية لوكربي، وما تم نهبه وخسارته مالياً وما حصل من تأخر في مشروع التنمية الواعد، وهذه الأمم المتحدة منذ عام 2011م نفسها كانت غطاء لضرب السلم الأهلي في ليبيا وهي التي عبرها تم تعويم مشاريع الدول الغربية التي جلعت من ليبيا موطىء قدم للإرهاب والإرهابيين أمام الأشهاد وبالمجاهرة، فكلما ضيق الليبيون على الإرهاب والإرهابيين تنبري الأمم المتحدة ومبعوثيها بطلب ممرات أمنة لهم تحت أسم (أطفال درنة – أطفال قنفودة ..الخ)، وقف إطلاق النار، وهي تتفرج بل وترعى وتغطي على إدارة للإرهاب (اللعبة الدولية القذرة) الذي تمكن من السيطرة على مركز الدولة والمال والإتصالات في ليبيا، وتصر على جعل الإرهابيين طرف ليبي لابد من وجوده في المشهد السياسي.

وهذه الأمم المتحدة غالباً ما تساوي بين محاولات الليبيون إنقاذ بلادهم من المليشيات والإرهابيين، وما يفعله هؤلاء الإرهابيون ومليشياتهم بالليبيون بل وتتفرج على دول مثل قطر وتركيا تدعم الإرهاب والارهابين بالأسلحة والذخائر عبر الجو والبحر بالطائرات والسفن وتسهيل تنقل الجماعات المسلحة، وما تفعله أحزاب نافذة مثل حزب النهضة (الغنوشية) في تونس وما يفعله وينهبه المركز العالمي للإخوان المسلمين من سيطرة ونهب للكنز المالي الليبي ورصيد الذهب الأعلى في المنطقة.

أن الأمم المتحدة – اليوم – أيها الليبيون ليست هي الأمم المتحدة عام 1950م، لقد كانت – وقتها – تعبير عن توازن قوى في العالم شكلت في ذلك قوى التحرر عالمياً قوى صاعدة لها تأثيرها وفعلها ونفوذها على العالم والقرار في المنطقة وداخل قرارات الأمم المتحدة بفعل إرادتها في تصفية الإستعمار وتحقيق الإستقلال.

أما اليوم فإن الأمم المتحدة تعبير عن سطوة الدول الغربية (أميركا – بريطانيا – أوروبا وأحلافها) وهؤلاء لا يحبون سواد عيونكم ولا يمارسون معكم الحب العذري، ولا تشغلهم مأساتكم، بل هم في حالة نشر الفوضى وتمكين الجماعات المسلحة وتغطيتها، وهم في حالة نهب وتسخير أداوات ومنظمات دولية لتحقيق ذلك وبسط السيطرة على الموارد بطرق جديدة وحديثة وصلت إلى حالة الأتاوات المباشرة على الدول والشعوب، أو حروب وسطو وإستعمار جديد كما فعلوا بالعراق وأفعانستان، وهاهم يفعلونه بليبيا.

أن الطريق الوطني المطلوب والمثمر – هو ما تصنعه وتخطط له وتقوم به وفق إرادتك وبإدارة أهدافك وقيادتك وفق جدول وسلم الأولويات الوطنية فما حك جلدك مثل ظفرك – وليس تصديق وتسليم أعمى وإستجابة ولهث وراء مشاريع وتصريحات مبعوثي هذه الأمم المتحدة وفرق عملها وما تجتره من إجتماعات ولقاءات ماراثونية هدفها معروفة الأسباب والمُخرجات.

فالذكي الفطن المدرك – في هذا العالم – هو من يحسن ويدرك ويعي ويعرف الخط الفاصل بين إرادته ومصلحته وأهدافه الوطنية، وتدخل الأخرون في بلاده والإستئساد عليها واللعب بها والتدخل في شؤونها وتتويهها وتتويه أبنائها، ورغم ذلك لابأس من القليل من ممارسة المجاملات مع هؤلاء وممارسة لعبة العلاقات العامة بوعي ومهارة، وفي نفس الوقت تحديد سُلم الأولويات والإصرار على العمل الوطني الخالص والتام والمحكم الإرادة والخطوات والفعل والتمكن من أدارة اللعبة الوطنية بجدارة كما فعل الأجداد المجاهدون، وكما فعل الأباء المؤسسون، وكما فعل الأبناء البررة الذين حرروا ليبيا من القواعد وأمموا نفطها وأعادوا لها سيادتها الوطنية ومنعوا نهبها وحرموها على قوى النهب الدولي وأذرعها.

والله من وراء القصد

باحث ليبي مقيم بريطانيا