بدعوة من معهد الدراسات الشرقية في روما وبحضور عدد من المهتمين بالشأن الليبي تشرفتُ بحضور مناسبة تقديم "الطبعة الثالثة" من كتاب الكاتب والصحفي الايطالي المخضرم ايريك ساليرنو
(الإبادة الجماعية في ليبيـا)
في حديثه عن قصة هذا الكتاب قال المؤلف انه في سبعينيات القرن الماضي كان يعمل كصحفي في جريدة "الميسّاجيرو" ذائعة الصيت ولم يكن هناك اهتمام حقيقي من قبل الصحافة في ايطاليا بمجريات الامور في ليبيا .. ولكن بعد ان تغيّرت الاوضاع في سبتمبر 1969 بدأ يظهر في الافق بعض الاهتمام بما يحدث في هذا البلد الذي كان يوماً ما ضمن نطاق المستعمرات الايطالية في افريقيا
في يوم 7 اكتوبر 1975 ألقى الزعيم الليبي خطاباً تكلم فيه بكّل حِدّة عن فظاعة ممارسات الاستعمار الايطالي خلال الفترة بين 1911 و 1931 متهماً الايطاليين بارتكاب جرائم إبادة جماعية في ليبيـا ..
أثارت هذه الاتهامات الصحفي ايريك ساليرنو وقرر البحث عن الحقيقة ومن هنا بدأ يبحث عن كل ما نُشر عن تلك الحقبة الزمنية ولكنه لم يجد الكثير سواء في الصحف او في المطبوعات
فذهب الى ليبيا اكثر من مرة واستطاع في احداها مقابلة الزعيم القذافي الذي أعاد على مسامعه نفس الاتهامات
عندها قرر سماع شهادات الليبيين الذين عايشوا تلك الفترة وقابل العديد منهم وقام بتسجيل كل ما ادلوا به مع ترجمة مترجم كان قد استعان به ، وعاد الى ايطاليا عارضاً التسجيلات من جديد على مترجم آخر الذي أكد مصداقية الترجمة التي قام بها زميله في ليبيا
ذهب بعدها الى وزارة الخارجية الايطالية للاطلاع على الملفات المحفوظة في أرشيفاتها فوجد "بعض" التعارض بين شهادات الليبيين وما تحتويه الملفات كما لاحظ ايضاً اختفاء البعض منها واكتشف كذلك ان بعض الاوراق (التي ربما تكون قد نسوها ) كانت تتكلم عن تجارب غاز الخردل المحرّم دولياً والتي كانت تُجرى على المدنيين الليبيين بدون علمهم استعداداً لغزو اثيوبيا كما كان هناك ايضاً استعمال للقنابل الحارقة ولم يتكلم احد من قبل على هذه الممارسات
كانت هناك ملفات تتكلم عن سياسات التهجير القسري التي مورست ضد الأهالي حيث كان هناك نوعين من معسكرات الاعتقال : الاول يضم سكان مناطق بأكملها بما في ذلك حيواناتهم التي يربونها نُقلوا اليها للحيلولة من ان تكون بيوتهم ومناطقهم اماكن اختباء او دعم للمجاهدين بينما النوع الاخر كان عبارة عن معسكرات اعتقال لإنزال العقاب بالمجاهدين وبكل مَنْ يُعتقد أنه كان يشكّل خطراً على الأمن !
وبالإضافة الى قصف البيوت والأحياء السكنية كانت هناك نفي لأعداد من الليبيين الى جُزر في ايطاليا نُقلوا اليها بحراً في ظروف مأساوية للغاية أدت الى موت الكثيرين منهم ..
عندما أصدر المؤلف الطبعة الاولى من كتابه في العام 1979 وجد ترحيب من الصحافة في ايطاليا ولكنه بالمقابل وجد امتعاض من بعض الذين كانت لهم علاقات مع النظام الفاشي او مَنْ لديهم ميول فاشية ، وبرر البعض موقفه هذا بأنه لم يعدّ من المناسب نبش الماضي واطلاع العامة على معلومات من الافضل نسيانها ..
في طبعة الكتاب الثانية أشار المؤلف الى المرحلة الجديدة والمختلفة في العلاقات بين البلدين واتفاقية "الصداقة والتعاون والشراكة" التي وقّعها رئيس الوزراء الايطالـي آنذاك (سيلڤيو بيرلسكوني) مع الزعيم الليبي معمر القذافي والاعتذار والتعويضات عن فترة الاستعمار ، ويقول ان هذه الخطوة قد سببت ضيق كبير لبعض الدول ذات الخلفية الاستعمارية وخصوصاً فرنسا التي تخشى ان يكون ذلك حافزاً ومشجعاً للمستعمرات السابقة لفتح الملفات والمطالبة بالتعويضات ،،
وفي الطبعة الثالثة تطرق إلى ما وصلت اليه البحوث بخصوص الليبيين المنفيين في ايطاليا والى تطور العلاقات بين البلدين والى احداث سنة 2011 وموقف ايطاليا المتردد ازاء هذه الأحداث وقفز بعض الدول لملء الفراغ الذي نتج عن ذلك والتبعات التي جاءت لاحقاً !
واستوقفني قوله :
ان التاريخ يعيد نفسه ولكن بصور اخرى
فمثلاً المعسكرات التي أقامتها وموّلتها ايطاليا خلال الفترة الاستعمارية قد ظهرت من جديد في ليبيا الان وان اختلفت طبيعة وجنسيات المعتقلين بداخلها .. ولتستمر ايطاليا بتمويلها ولو بطريقة غير مباشرة في محاولة منها للحيلولة دون تدفق المهاجرين البؤساء الهاربين من بلدانهم والحالمين بحياة افضل يعتقدون انها بانتظارهم متى وطأت اقدامهم احد الشواطىء الإيطالية
من هنا يقول المؤلف تأتي اهمية ذكر الحقائق التاريخية لفهم اسباب وديناميكية ما يحدث تحت أعيننا كل يوم .. اذ يبدو وللاسف ان الحاضر يستدعي الماضي بكل مآسيه !
..
..