اهم الاخبار

بركان التحدي والتصدي والصمود بقلم :أ/ محمد نائل

بقلم : 25 مارس 2020

 

يوافق اليوم24مارس الذكرى الـ ( 34 ) لاسقاط الطائرات الامريكية فوق خليج سرت ، بوسائل الدفاع الجوي العربي الليبي ..

⁦✍️⁩أ .. محمد نائل

توطئة واجبة :

لعل من أهم المحطات في حياتي المهنية كعسكري محترف (1981م/2014م) ، تلك التي شاركت من خلالها في المواجهات الحربية ضد الأسطول السادس الأمريكي ، في خليج سرت في منتصف ثمانينات القرن الماضي كضابط بقطاع سرت للدفاع الجوي .
بالرغم من الزخم الإعلامي المرئي والمسموع والمقروء ، الذي واكب أحداث هذه المواجهات ، لكن الكثير من الليبيين وغيرهم ، لا يصدقون أن الدفاع الجوي الليبي أسقط طائرات أمريكية في خليج سرت ظهيرة يوم 24مارس 1986م، ويعتبرون ذلك من قبيل الدعاية والتضخيم .
كثيراً ما فكرت بالكتابة حول هذا الحدث ، الذي عايشت تفاصيله ، لكن في كل مرة أتوقف عند الحاجة الملحة للوثائق التي تدعم ما أكتب ، وألجأ إلى التأجيل .
مؤخراً عثرت على وثيقة مترجمة عن اللغة الروسية صادرة عن بعثة الخبراء الروس الفنية العاملة لدى الجيش الليبي ، والمتواجدة على الأرض الليبية ، أبان أحداث خليج سرت ، تضمنت الوثيقة التي أخذت شكل التقرير ، تفاصيل تصدي الدفاع الجوي الليبي لاختراق الطيران الأمريكي للأجواء الليبية بتاريخ 24مارس1986م ، كانت هذه الوثيقة خير مرجع لي لكتابة هذا الادراج لما تضمنت من معلومات قيمة .

زمن السيادة :

السيادة والإستقلال من المقومات التي تقوم عليها الدول ، وهي التي تحقق الهيبة والمنعة ، وترفع الروح المعنوية للشعب ، وتحافظ على المقدرات الوطنية من أطماع السلب ، غير أن هذه المقومات لا تتأتى بسهولة ، وتتطلب جهوداً مضنية لتحقيقها ، تتمثل في سياسة وطنية قوية ، وتقوم على نظام دفاعي أمني حصين ، وتهيئة معنوية تستند على عقيدة واجبة التضحية بالأرواح لأجل ترسيخها .
وكانت السيادة المطلقة على كامل ليبيا بأقاليمها الثلاث ، البري ، والبحري ، والجوي تتصدر إنجازات النظام الجماهيري ، بقيادة الشهيد الصائم معمر القذافي ، الذي عرف الليبيون في عهده معنى الإستقلال الحقيقي ، وذاقوا من بعده مرارة فقدان السيادة والإستقلال والهيبة .

الصراع العسكري :

كان القرار الليبي بإجلاء القواعد الأمريكية بعد بضعة أشهر من قيام ثورة الفاتح من سبتمبر 1969م ، والذي برهن على تحرر الإرادة الليبية ، وصار عيداً يحتفل به الليبيون سنوياً في الحادي عشر من يونيو ، كان هذا القرار بداية إنهيار العلاقات بين البلدين ، بالاضافة إلى دعم الثورة الليبية لحركات التحرر في العالم وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية ، علاوة على السياسة النفطية التي انتهجتها ليبيا المتمثلة في تأميم الشركات النفطية ، وإعلان ليبيا سنة 1973م مياه خليج سرت مياه داخلية ليبية ، ومعارضة أمريكا لهذا الإعلان ، علاوة على الدعم الليبي لمصر في حرب اكتوبر 1973م ضد الكيان الصهيوني ، من هنا بدأت سياسة كسر العظم التي مارستها الإدارات الأمريكية المتعاقبة ، ضد الشعب الليبي وقيادته العنيدة . حيث تطور الخصام الليبي الأمريكي بمرور الزمن ، ليأخذ شكل الصراع العسكري .
كانت المحطة الأولى في هذا الصراع ، الإشتباك الجوي فوق خليج سرت ، بتاريخ 19أغسطس 1981م ، عقب إعلان القوات الأمريكية ،إجراء مناورات حربية في البحر المتوسط ، حيث أسفر هذا الإشتباك غير المتكافيء ، من حيث العدد ومن نوعية الطائرات ( 8 طائرات F14) اعتراضية امريكية ، مقابل (2طائرة ) قاذفة ليبية ، أسفر هذا الاشتباك عن إسقاط طائرة F14 من الجانب الأمريكي يقودها الطيار (هنري كليمان) ، الذي لقي حتفه ، وعن إسقاط طائرتين نوع سيخوي 22 من الجانب الليبي ، يقودهما اللواء طيار بلقاسم امسيك والعميد طيار ركن مختار الجعفري ، اللذين كتبت لهما النجاة من خلال القفز المظلي ، على أثر هذا الاشتباك ألغيت المناورات المقررة ، وعرف الأمريكان جدية الليبيين في الدفاع عن أحقيتهم لخليج سرت .

في أواخر سنة 1985م ، دفعت أمريكا إلى البحر المتوسط بحاملة الطائرات ( كورال سي ) وحاملة الطائرات ( ساراتوجا ) ، وحاملة الطائرات ( امريكا ) ، كان قوام هذه الحاملات قرابة 300 طائرة نصفها هجومي ، علاوة على مساندة القواعد العسكرية الأمريكية الوقعة في الساحل الشمالي للبحر المتوسط ، وظهرت دلائل الهجوم الجوي المعادي على شاشات محطات الرصد والانذار ، وشاشات غرف العمليات في قطاعات الدفاع الجوي الليبية الساحلية ، من خلال الطلعات الاستطلاعية والقتالية للطيران الامريكي ، وأتذكر أنه في صباح 31ديسمبر1985م رفعت درجة أستعداد قطاع سرت للدفاع الجوي الى الحالة ( الكاملة ) ، ولم تنزل عن (50%) ، حتى نهاية سنة 1986م .
في يناير 1986م أعلنت القيادة الليبية أن خط 32:30 كخط فاصل بين المياه الدولية والمياه الاقليمية الليبية وأطلق عليه إسم ” خط الموت ” ، ورفع القائد طيب الله ثراه شعار ( سيتحول خليج سرت إلى خليج أحمر عند اللزوم ) .

إعداد العدة :

استمرت المناورات الأمريكية في البحر المتوسط قبالة الشواطيء الليبية طيلة الثلاث أشهر الأولى من سنة 1986م ، وكانت ترتيبات رئاسة أركان الدفاع الجوي في أوجها ، حيث دُعمت منظومة الدفاع الجوي الليبية ، بمنظومات صواريخ أرض / جو ، نوع سام5 (S200 ) ، التي يبلغ مداها القتالي (240كم ) ، كما دُعمت الشبكة الرادارية بمحطات رصد وانذار المانية نوع أسترم 5 متطورة ذات مدى بعيد ، وتم الربط بين المنظومات الشرقية الروسية والبولندية الصنع مع بعض المنظومات الغربية الألمانية والفرنسية والانجليزية ، وذلك من خلال غرف قيادة وسيطرة متطورة تعتمد الحاسب الآلي في عملها ، غطت كافة الاجواء الليبية ، بالإضافة إلى المقاتلات الاعتراضية التي تعمل تحت القيادة القتالية لمنظومة الدفاع الجوي . وكانت جل الاطقم القتالية والفنية قد تلقت دورات استخدام قتالي وفني في الدول الموردة منها المعدات .

التحرشات :

خلال شهر مارس 1986م ، كثف الأسطول السادس الأمريكي ، من طلعاته الجوية الاستطلاعية ، وسخر آلته الحربية الضخمة ، بما تحوي من أقمار صناعية وطائرات تجسس ، وطائرات استطلاع متطورة على غرار الطائرة (SR-71 ) المعروفة بـ الطائر الأسود ذات السرعة الخارقة ، سخر ذلك في دراسة الخواص التقنية والتعبوية لأنظمة الدفاع الجوي الليبي ، ومعرفة نقاط الضعف والقوة فيها ، بغية القيام بعدوان يستهدف إسكات منظومة الدفاع الجوي الليبية ، من خلال القيام بالتشويش الالكتروني ، ليتسنى لهم الاقتراب و توجيه ضربات ضاروخية جو أرض ، تستهدف محطات الرصد والانذار ، ومحطات توجيه الصواريخ م/ط ، ومن ثم القيام بضربات جوية على أهداف محددة بدقة ، لإسكات الصوت المناهض لسياسات أمريكا الامبريالية .

ضهيرة ربيعية ساخنة :

صباح يوم 24مارس1986م ، على تمام الساعة 01:00 كثف الطيران الامريكي تحليقه فوق البحر قبالة مدينة سرت ، وبشكل غير مسبوق ، وعلى حافة (خط الموت ) بمسافة إقتراب تتراوح بين(170 إلى 300كم ) تقريباً من اليابسة على إرتفاع بين ( 4إلى8كم ) تقريباً .
على تمام الساعة (13:00) تجاوز تحرك جوي بقوة طائرتين خط رفع درجة الاستعداد ، على الفور صدرأمر من غرفة عمليات قطاع سرت للدفاع الجوي ، برفع درجة استعداد وحدات الصواريخ م/ط بقوام قناتي فيجا ( سام 5) بلواء التحدي وكتيبتي فولجا (سام 2) وكتيبتي بيتشورا (سام3) بلواء المزن ، وكتيبتي ( سام6) كوادرات بلواء المرقب ، بالاضافة الى معدات الدفاع المحلي المدفعية م/ط ، أستمر التحرك بالمناورة والاقتراب ، تحت الرصد والتتبع الراداري ، وتم تمييزه كهدف معادي ، على تمام الساعة (13:45) دخل الهدف المعادي بقوة طائرتين منطقة تدمير منظومة (سام5) ، بعد تتبع محطة الرصد والدلالة على الأهداف ( ابارونا ) ، وفق المعلومات الآتية : (المسافة = 160كم ،الزاوية = 12 الارتفاع 4.5 كم ، السرعة=16 م/ ث). وقدم التمام لمركز العمليات بالجاهزية للرماية بواقع هدف لكل محطة توجيه ، على تمام الساعة (13:49) صدر الأمر بالرماية ، وعلى تمام الساعة 13.50 ، أطلقت القناتان من طراز (سام5) صواريخ فردية على الطائرات الامريكية التي تم رصدهما بشكل منفصل : ( المسافة115 كم ، الزاوية = 12 ° ، والارتفاع= 4.5 كم ، و السرعة= 160 م / ث.بمعدل 8 ثوانٍ. 25-30 ثانية ) .
بعد إطلاق الصواريخ بدأت الأهداف تفقد ارتفاعها بدون أي مناورة لتختفي من الشاشات على ارتفاع 2 إلى 2.5 كم. بعد 95 ثانية من الطيران بفاصل زمني قدره 6 ثانية ، وفي هذا دلالة على اصابة الطائرتين وسقوطهما في البحر .

ردت الفعل :

بعد الرماية الصاروخية ، كثف الأمريكان التشويش الالكتروني ، على قطاع سرت للدفاع الجوي ، مما نتج عنه تردي الاتصالات بين مركز العمليات والتشكيلات الصاروخية والرادارية وانقطاعها أحياناً ، وحدوث تشويش كامل على بعض الرادارت ، في حين استطاعت منظومة (سام5) التغلب على التشويش ، ومواصلة العمل بالكشف والتتبع للعدو ، في ظروف فقدان الاتصال بمركز العمليات ، وإعتماد السيطرة اللامركزية والتصرف من قبل آمر لواء التحدي ( سام 5) وفقاً لمقتضيات الحال ، في هذه الظروف وعلى تمام الساعة 18.42 التقطت القناة الاولى لصواريخ (سام5) هدف على بعد 120 كم وعلى ارتفاع 3 كم. وتمت اجراءات التصدي في تمام الساعة 18.44 ، و تم تدمير الهدف بصاروخ واحد على مسافة 100 كم،وارتفاع 3 كم ، بعد 25-30 ثانية من إطلاق الصاروخ ، باشر الهدف السقوط الحر وفقدان الارتفاع كما حدث للهدفين السابقين ، وذلك على ارتفاع 1.5 كم. حيث حدث تلاقي الصاروخ مع هدف عند المسافة 85 كم ،ارتفاع = 1.5 كم ، مع زمن طيران للصاروخ قدره 95 ثانية .
في هذا الوقت ، كانت حركة الطيران المعادي تنفذ مهامها بتداخل تشويش نشط ذي كثافة متوسطة ومنخفضة للرادارات P-14 محطة P-37 ومحطة P-18 ، في حين أن راداري Oborona-14 و PRV-17 لم يتداخل عملياً. في الساعة 20.47 إلى 20.50 توقف التشويش، وعلى مسافة 60 و 80 كم كان هناك هدفين. كلف قائد مجموعة كتيبة السام 5 مهمة بالاستطلاع و تم اكتشاف هدف على مسافة 70 كم ، واستمر الأول في مرافقة الهدف على مسافة 60 كم. جهزت وحدة الإطلاق الصواريخ الثانية الطاقة الكاملة وبدأت يدويًا في الالتقاط للرماية ، ولكن أقرب طائرة امريكية أطلقت صاروخين من نوع (هارم ) المضاد للرادارات . انفجر أول صاروخ هارم على مسافة 8 أمتار وارتفاع 9 أمتار وأصابت شظاياه هوائي كابينة القيادة K-1 . بينما حلق الصاروخ الثاني على الموقع على علو منخفض وانفجر عندما سقط على مسافة 10-11 كم من موقع مجموعة الكتيبة(سام 5 ) ولم يحدث اضراراً .
و كان من المقرر أن تضرب الطائرة الثانية التي تطير على مسافة 60 كم كابينة القيادة الأخرى K2 ، غير أن فطنة طاقمها فوتت الفرصة على العدو باطفاء المعدات وإيقاف الارسال الكهرومغناطيسي ، الأمر الذي منع من إطلاق صواريخ نوع (هارم) المتتبع للشعاع ، وغادرت الطائرتان قطاع المسؤلية .

الاصرار على التحدي :

أسفرت الضربة التي تلقتها محطة التوجيه (K1) ، عن أضرار متوسطة لحقت بهوائي المحطة ،وبعض الملحقات والكوابل .وفي خلال بضعة أيام عادت المحطة للعمل القتالي بعد تعويض الهوائي بمحطة التوجيه الخاصة بلواء التصدي (سام5 ) ببنغازي .

ها قدعدنا ياقذافي :

من الجدير ذكره في هذا السياق ، أن حلف الناتو عند قيامه بحملته العسكرية الحاقدة ضد ليبيا يوم 19مارس 2011م ، أستهل قصفه المحموم باستهداف مواقع الدفاع الجوي بسرت وعلى رأسها موقع لواء صواريخ التحدي (سام 5) " مرفق صور الموقع قبل وبعد القصف "، هذا بالرغم من معرفتهم المسبقة أن اللواء خارج العمل القتالي ، لمقتضيات الصيانة ، وفي هذا دلالة على أن هذا القصف أتى رداً على الضربات الموجعة التي تلقاها الأمريكان أبان المواجهات السابقة فوق خليج سرت .

تهنئة واعتزاز :

أهنيء بهذه المناسبة كافة أبناء الشعب الليبي ، وأخص زملائي منتسبي الدفاع الجوي الليبي ، الذين كانوا يغمرهم الفرح وهم يحتفلون سنوياً بهذه الذكرى العطرة .
ولئن توقف الاحتفاء بذكرى هذا الحدث البطولي ، وتنكر البعض له !!، لكنه يعيش في وجداننا نحن صانعيه ، معاني عظيمة ، وقيم وطنية سامية ، لإنتصار وطني نعتزبه ونورثه فخراً لابنائنا واحفادنا بعون الله .
......................

(*) أسماء ألوية صواريخ (سام5) المتمركزة في :
البركان زليتن ــ التحدي سرت ــ التصدي بنغازي ــ الصمود طرابلس