لا أحد يمكنه ان ينكر عمق الثأر المستاصل بين القذافي والإمبريالة منذ ما يزيد عن خمسين عاما، هذا الثأر الذي بدأ فيه الرجل مختزلاً علاقة الجنوب بالشمال، حيث لم يكن ذلك فكراً ترفياً بقدر ما هو كفاحاً مستمراً له علاقة بجهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي والذي دفعت فيه أُسرته كباقي الأُسر الليبية رجالها إلى ساحت الجهاد والإستشهاد، وهو أيضاً مشروعاً تحرريا له دلالاته المعنوية والمادية في جوانب الحياة هذا من طرف، ومن طرف أخر فأن الثأر الإمبريالي المستأصل من القذافي نراه اليوم واضحاً في العدوان الغربي على ليبيا - في أحد جوانبه - والذي يستهدف فيه شخص وقيم العقيد القذافي بشكل غير مسبوق تاريخياً بألة إعلامية رهيبة تستخدم أحدث الطرق والنظريات والأجهزة، وأيضاً أحدث الأسلحة وأقواها على وجه الأرض.
لقد بدأ الرجل معتركه السياسي مبكراً عام 1959 بمظاهرة في مدينة سبها ضد التدخل الأجنبي في الكونغو، وتلاها بعد عامين إثنين 1961م بمظاهرة أُخرى إحتجاجاً على إنفصال سوريا عن مصر وتقويض الجمهورية العربية المتحدة، حيث إختط مشروعه السياسي منذ البداية نحو التحرر من الإستعمار وهو الأمر الواضح والجلي في تتبع مسيرته السياسية منذ اللحظات الأُولى بعد القدرة - هو ورفاقه- على السيطرة على الأوضاع السياسية في ليبيا صبيحة الفاتح من سبتمبر 1969م.
أن اللحظات الأُولى لثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا، كانت هامة في تبيان مسيرته حيث كان أول تحرك سياسي خارجي - قبل حتى مضي 24 ساعة من الثورة - هو طلبه إستقبال مبعوث من الزعيم (جمال عبد الناصر) حيث أبلغه ـن الإمكانيات الليبية ستكون من اللحظة تحت تصرف قومية المعركة التي يديرها ناصر أنذاك، وأبلغ المبعوث المصري أن الثورة هي إستجابة للنداءات من أجل تحرير فلسطين من الإستعمار الأجنبي وتحقيق الوحدة العربية،
أما داخلياً - مباشرة - تلاء ذلك سريعاً بالدعو لمباحثات جلاء القوات الأجنبية من على الأرض الليبية والتي أُجليت جميعهاً في حدود العام الأول للثورة، ففي 1970.3.28م تم إجلاء القوات البريطانية من قاعدة (العدم) في طبرق وسميت بقاعدة جمال عبد الناصر، وأُجليت بعدها أكبر قاعدة أمريكية خارج أميركا من على الأرض الليبية ( قاعدة هويلس) في طرابلس وسميت قاعدة معيتيقة ومعها 5 قواعد جوية أُخرى ملحقة بها في 1970.6.11م، وتم أيضاً إجلاء 30 ألف مستوطن إيطالي كانو يملكون كل الأراضي الزراعية الخصبة في السهل الزراعي الممتد من مصراته إلى صبراته غرباً في 1970.10.7م، وسلمت الأراضي والمزارع لليبيين الذي كانوا عمالاً فيها، ومباشرة دون أي توقف إتبع ذلك بمباحثات تاميم شركات النفط الأجنبية، وإعادة ترتيب عقود النفط مع الشركات المحتكرة للنفط الليبي وبذلك أحكم سيطرة الليبيين على المصدر الإقتصادي للبلاد.
هذه كلها كانت إجراءات تمثل في حقيقتها صراعاً حقيقيا مع الإمبريالية التي إمتثلت لإرادة الليبين الذين أيضاً سيطروا لأول مرة على أجواءهم التي كانت تدار من جزيرة مالطة، وأصبحت الأجواء الليبية تدار من طرابلس في منتصف عام 1970م.
أن القذافي لم يسترح او كما يقال يؤجل معركته مع الإمبريالية، في ثأر حقيقي وإسترداد لما ينهب، بل سار في طريق توثيق تاريخ الجهاد الليبي ضد الغزو الإيطالي, وإنشأء مركزا لجهاد الليبيين يوثق تاريخياً الأحداث والقصائد والروايات الشفوية والموثقة حول المعارك والشهداء والمنفيين، وتم حصر أُسر الشهداء والمجاهدين، وبدأ العمل الفعلي بصرف مرتبات لكل المجاهدين الأحياء، وإتبعه بتوشيح كبار المجاهدين ومنحهم رتب عسكرية تقدم لأهلهم وذويهم، وعمل إعلامياً على توثيق الجهاد الليبي في نموذج من نماذج جهاد الأبطال الليبيين بتمويل وإنتاج عمل سينمائي تاريخي هو عمر المختار.
إن الرجل لم ينم على هذا الثأر وسار خلال 40 عام مخاصماً إيطاليا رافضاً حتى مجرد زيارتها حتى توج الأمر بالإعتذار الإيطالي الشهير للشعب الليبي وتقديم التعويض المعنوي والمادي، في تطور كبير وبارز له دلالته الكبرى للشعوب المكافحة من أجل الحرية والتي وصلت لحد تقبيل - رئيس وزراء ايطاليا - يد إبن المجاهد عمر المختار، ولم ينسى القذافي في كل المناسبات مطالبة أُوروبا بالإعتذار للشعوب التي إستعمرتها وخاصة فرنسا في ضرورة إعتذارها للشعب الجزائري والشعوب الافريقية الاخرى على فترة الاستعمار البغيضة.
إنها عملية ثأر وإستئصال كبرى لشافة الإستعمار قال فيها (فيديل كاسترو) نهاية سبعينيات القرن الماضي ذات مرة "..ويل للإستعمار إن عاش القذافي 70 عاما.."، حيث إستمر ثأر القذافي من النهب التاريخي الذي يمارسه الإستعمار على المنطقة باسرها، وكان واضحاً وجلياً ما عمل عليه في بناء الإتحاد الافريقي ومسيرته التي وصلت إلى مرحلة مهمة من مناقشة إنشاء البنك الأفريقي وما لوح به أخيراً من قيام العملة الإفريقية الموحدة والتي تعني ضربة قاصمة لسيطرة أوروبا وفرنسا خصوصا على إفريقيا إقتصاديا وتحقق لبلدان الجنوب مكاسب إقتصادية عالية وحرمان العالم الغربي من مصدر أموال ودورة إقتصادية في الجنوب تصب في مصلحة إقتصادياته.
أن حالة الثأر هذه واضحة في مسيرة القذافي وعلاقته بالدول الغربية حتى وهو في أحسن علاقاته السياسية معها، وهاهي اليوم نفس الإمبريالية تقفز على كل القوانين والقواعد والأعراف الدولية وتكشر عن إنيابها في الثأر من الرجل كما لم تثأر من أحد قبله في أول فرصة سنحت لها، حيث نرى عمليات إغتيال المادي والمعنوي والتشويه الحادة وغير المسبوقة بإستخدام الإعلام والتأثير على الرأي العام بأقوى وأحدث و أوسع عملية تشويه وإغتيال شخصية، وفي ذلك أمر واضح يستهدف القيم التي يدعو لها القذافي في مسيرته السياسية من أجل أن تشوه هذه المفاهيم وتربط بصور سيئة، بل وقصفت بيته وأُسرته في أضخم محاولة إغتيال غادرة يقوم بها حلف الناتو الذراع الإمبريالي الكبير.
أن ما يقلق الإمبريالية هو نزوع دول الجنوب المنهوبة إلي سلوك القذافي في الثأر من المستعمرين - وهو ما رفضته فرنسا وهربت منه في علاقتها بالجزائر كنموذج - وها هي اليوم تصب الحمم وتدمر البنية التحتية في ليبيا وتستخدم أقوى أسلحة التدمير في الثأر من الرجل الذي قض مضجعها طوال 42 عاما مكافحاً ومنافحاً وهاهي تستثمر الظروف الليبية الداخلية والإحتقان السياسي الداخلي وتستخدمها، وتضخمها، وتمولها لتحقيق الثأر الإمبريالي من خصمها التاريخي العنيد (القذافي) ولتعود إلى سلوكها التاريخي في التدمير النهب والسيطرة.
أن الإمبريالية تثأر اليوم من القذافي عدوها التاريخي اللدود، هذا العدو الحقيقي للإستعمار الذي كافحها صغيراً يافعاً وظل كذالك طول عمره السياسي يكافحها داخلياً وخارجياً في كل المحافل الدولية حتى من على منبر الأُمم المتحدة التي رأى فيها صورة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ولابد أن تكون مكاناً لشعوب العالم وليس لهؤلاء المنتصرين، وقدم من على منبرها أكبر وأصدق وأضخم مرافعة ومحاكمة تاريخية لمسيرتها التي وجب حسب منهجه تصويبها ووضعها في خدمة الانسانية بدلاً من أن تكون أداة في يد الدول الكبرى الإمبريالية.
إنها في الحقيقة عملية ثأر متبادلة بين خصمين لدودين، فيها القذافي طرفاً بكل ما أنجز من مكاسب لشعبه ولمحيطه العربي والإفريقي وما أثار من قضايا في العالم، وفيها الإستعمار والإمبريالية طرفاً أخر - في حالتهما الطبيعية التي لم تتغير رغم السنين ورغم إدعاءات التقدم والإنسانية - والتي لا تعرف فيها هذه الإمبريالية إلا النهب والسيطرة من أجل مصالحها دون حساب التكاليف الإنسانية من قتلى وإختراق القوانين وسحق القيم، مما يجعل سؤالنا، "..القذافي والإمبريالية، من يثأر ممن؟.."