استمرت ليبيا تحت الاحتلال الإيطالي حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية كانت خلالها إيطاليا في ما عرف بدول المحور مع ( ألمانيا واليابان) عدوة للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا (الحلفاء) لذلك كانت الساحة الليبية مسرحاً في الكر والفر بين دول المحور والحلفاء ، حيث دارت عليها آخر معارك الحرب العالمية الثانية على الساحة الإفريقية ، والملحقة بنتيجة معركة العلمين الشهيرة(الواقعة في جنوب غرب الإسكندرية وشرق ليبيا)التي انتصر فيها الحلفاء على المحور ،وكانت إيذاناً بانتهاء الاحتلال الإيطالي مطلع العام 1943 ‘ وعليه قُسمت الساحة الليبية إلى قسمين باتخاذ دائرة العرض 28 درجة كخطٍ فاصل بين الشمال الليبي البريطاني والجنوب الليبي الفرنسي.
بالاحتلال البريطاني للشمال الليبي عام 1943م حصلت الولايات المتحدة الأمريكية على ما تسعى إليه منذ العام 1800 أي بعد مائة وثلاثة وأربعين عاماً في عهد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ( 1945-1933 عن الحزب الديمقراطي ) ، إذ سمحت القوات البريطانية للقوات الجوية الأمريكية باحتلال مطار الملاحة المستخدم سابقاً من قبل الطليان واستخدامه كقاعدة عسكرية لقواتهم الجوية ،وقد عُرف المطار بقاعدة “هويلِس” الجوية الأمريكية الواقعة على بضعة أميال شرق طرابلس .
لقد سعت أمريكا منذ هذا الاحتلال للاحتفاظ بهذه القاعدة إدراكاً منها بأهميتها الإستراتيجية النفيسة ، وبترسيخ وجودها بالتفاهم مع الدولة التي تحكم طرابلس أو ستحكمها مستقبلاً ، وتظهر دلالة ذلك في أروقة منظمة الأمم المتحدة أثناء مناقشة القضية الليبية وكذلك في علاقات العضو الأمريكي مع العضوين الفرنسي والبريطاني في لجنة التحقيق الرباعية الدولية ( المؤلفة من وزراء خارجية الدول الأربع ،( بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي) واستئثارهم بالقرار عن العضو السوفييتي فيما يخص القضية الليبية ، حيث مصالح الدول الأربع الكبرى على مباحثات هذه اللجنة ، وظهرت آراء عديدة إما أن توضع تحت الوصاية الدولية أو بعودتها كلها أو جزء منها لإيطاليا طوال الفترة ما بين 1948: 1945م، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تميل لمنح إيطاليا الوصاية على كل ليبيا أو جزء منها .
بإحالة القضية الليبية للجمعية العامة للأمم المتحدة، مصحوبة بتعالي الأصوات حول رجوع إيطاليا لحكم مدينة طرابلس كانت الدعاية الأمريكية على أشدها لظهور مشروع قرارٍ أعده وزيرا خارجية الدولتين وهما البريطاني ( أرنست بيفن والإيطالي كارلو سيفورزا ) للجمعية العامة وقد عُرف بمشروع بيفن سيفورزا لحل القضية الليبية على ما يلي :-
1ــــ أن ترضى إيطاليا بالوصاية على طرابلس.
2ــــ تستمر فرنسا في إدارة فزان .
3ــــ توضع برقة تحت الوصاية البريطانية .
4ــــ تعطى ليبيا الاستقلال بعد عشر سنوات .
إلا أن تكاتف الأسرة الآسيوية والعربية والإفريقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أسقطت هذا المشروع الاستعماري الجديد في 18 الماء/ مايو 1949، برفض 37 عضوا مقابل موافقة 14عضوا وامتناع 8 عن التصويت.
وبصدور قرار الاستقلال المنقوص رقم 289 في 21 /الحرث / نوفمبر 1949م ، القاضي باستقلال ليبيا المنقوص قبل أول /أي النار/ يناير 1952م ، دخلت الحكومة الأمريكية في مباحثات حثيثة مع رموز المملكة الليبية وحكومتها المؤقتة لتنظيم وجود قواتها في البلاد بمقابل مالي والملفت ان التاريخ المحدد للإستقلال هو نفسه اليوم الذي وقعت فيه إتفاقية القواعد الامريكية وفيما يلي عرض لأهم ما تضمنته الاتفاقيات الأمريكية الليبية والآثار الناجمة عنها :-
أ:- الاتفاقية الأمريكية الليبية في 24الكانون/ ديسمبر1951م:-
أ سفرت مباحثات الولايات المتحدة الأمريكية من خلال القائم بأعمالها في طرابلس” اندروج لنش” مع نظام العهد المباد “الملك إدريس”لوضع نصوصٍ لاتفاقيةٍ شاملة ، أقرها إدريس السنوسي ،ثم أصدر أوامره إلى رئيس وزرائه محمود المُنتصر بالتوقيع عليها ، فتم ذلك تحديداً يوم إعلان الاستقلال المزيف في الرابع والعشرين من / الكانون / ديسمبر 1951م، وهذه الاتفاقية مؤلفة من سبع وعشرين مادة وأربعة كتب متبادلة، مُنِحت أمريكا بموجبها مايلي:-
1- حق البقاء في قاعدة هويلس الجوية لمدة عشرين عاماً.
2 – حق السيطرة الكاملة على الأجواء والمياه الليبية وحرية الوصول والحركة للقوات الأمريكية في جميع أجزاء ليبيا.
3 – سمحت لأمريكا ودول أخر أو أشخاص آخرين باستعمال القواعد العسكرية الأمريكية.
4 – إعفاء القوات الأمريكية من جميع الرسوم والضرائب وعدم سريان القانون الليبي على أفراد هذه القوات “وما يجري في القاعدة”
لقد كانت كل تلك الحقوق المُعطاة لأمريكا مقابل مليون دولار تدفعها الحكومة الأمريكية كل سنة لليبيا ، تحت ستار”خير الشعب الليبي ومساعدة الحكومة الليبية في إدراك اقتصاد مُستقرٍ للمواطنين”
كان من المفترض أن تُعرض الاتفاقية على البرلمان الليبي (مجلسي النواب والشيوخ) بمجرد تكوينه لإبداء الرأي فيها ،لكن ذلك لم يحدث ،إلى أن أُثيرت من قبل أحد أعضاء مجلس النواب في الخامس من يوليو/ ناصر 1952م بالتساؤل عن الوضع بشأن مطار الملاحة وتوسع السلطات الأمريكية في الاستيلاء على بعض الأراضي الزراعية المجاورة لضمها للمطار، وما إذا كان هذا الإجراء يتم بموجب اتفاقية أُبرمت ،فإذا كان الأمر كذلك ، فهل تنوي الحكومة عرض هذه الاتفاقية على المجلس … لينظر فيها أم أنها وضعتها موضع التنفيذ بدون أن تلتفت إلى (الاعتبارات الدستورية)
يُذكر أن محمود المُنتصر أجاب على التساؤل في 21يوليو ناصر1952بالقول : استجابت الحكومة الليبية لهذا العرض ا( الأمريكي لإجراء مفاوضات لتنظيم ما سمي بالوضع القانوني لقواتهم في ليبيا) لإقرار وضع قائم في ظروفٍ يتطلبها الأمن العالمي ، وهذا وضع يتفق مع مصلحة البلاد ولا يتنافى مع سيادتها واستقلاله ، وقد وقعه وزير الخارجية يوم إعلان الاستقلال، وذلك بالنيابة عن الحكومة الليبية ، وسيعرض هذا الاتفاق على مجلسكم في أقرب فرصة لمناقشته وإقراره”.
من هنا نرى أن الاتفاقية قد وقعت رسمياً وعَملت بموجبها أمريكا دون أن يُقرها المجلس الدستوري مجلس النواب، كما حملت بقية إجابات محمود المنتصر الموافقة الكاملة على الاحتلال العسكري الأمريكي لليبيا على أساس أنه أمرٌ واقع، بقوله:”إن وجود القوات العسكرية الأجنبية في ليبيا والأمريكية منها بوجه خاص هو وضعٌ قائمٌ ضمن السياسة الدولية الرامية إلى المحافظة على السلام في العالم ….وأن الحكومتين الليبية والأمريكية لا تبتعدان عن روحه في علاقات بعضها ببعض، وصحيح أن المطار يقع في ناحية زراعية مهمة كما أنه قريب من مدينة طرابلس الغرب …فقد اتسعت رقعته(المطار) بأن استأجرت قيادة المطار الأراضي التي كانت في حاجة إليها …فلا يبقى أمامنا إلا قبول الأمر الواقع فيما يخص المطار.
الحقيقة أنه كان بإمكان الحكومة الليبية في تلك الفترة أن تطالب بإنهاء الآثار الاستعمارية أو تلجأ للأمم المتحدة لطلب عونها لإخراج القوات الأجنبية من أراضيها لكنها لم تفعل ذلك، ورفضت مشاركة المنادين بتطهير أرض ليبيا من القوات الأجنبية، أثناء اجتماعات اللجنة السياسية لهيئة الأمم المتحدة في باريس يوم 22يناير/ أي النار 1952م، كما أن رد رئيس الوزراء الليبي السابق في البرلمان كان الدليل الحي على دخول الاتفاقية موضع التنفيذ عندما وسّعت القيادة الأمريكية مطار الملاحة في الأراضي الزراعية المجاورة، وفي الخامس من يناير/ أي النار 1953 تساءل أحد أعضاء مجلس النواب مجدداً عن الاتفاق المعقود مع أمريكا بشأن القواعد الأمريكية في ليبيا، ولماذا لم يُقدم هذا الاتفاق للمجلس حتى اليوم? ،حيث أجاب وزير الدفاع الليبي “علي الجربي” نيابة عن رئيس الوزراء ووزير الخارجية :” بأنه سبقت الإجابة على هذا السؤال سابقاً، وأن الاتفاقية ذات صبغة مؤقتة بموجب رسالتين تم تبادلهما بليبيا يوم الاستقلال ،وأن الاتصالات مازالت جارية بين الحكومتين .
تكملة2